كلنا نحب أطفالنا، نضحي بحياتنا من أجل حياة أفضل لهم، ونعيش على أمل اليوم الذي نراهم فيه في أعلى الدرجات، ولكن ما نتمناه ونتصوره شيء، والواقع شيء آخر، كل أب وكل أم يسعيان لتنشئة أولادهما على أحسن ما يكون، لكن لأسباب ولظروف معقدة تصاحب عملية التنشئة أشكالاً من القمع والعنف والقسوة والاهمال العاطفي، يبرر الأب ذلك أحيانًا بالرغبة في فرض النظام والانضباط داخل الأسرة وأحيانًا أخرى بدافع الحب والحرص على مصلحة الأبناء، وننسى أن الدبة قتلت صغارها بدافع الحب، ويتصور آباء كثيرون أنهم يحسنون إلى أطفالهم طالما لم يعاقبوهم بدنيًا، لكن أشكال الايذاء لا تقتصر على العقاب الجسدي فقط، فقد يعاني الطفل لسنوات طويلة من كلمة قيلت في لحظة غضب من أحد الأبوين، ونحن نعرف أن وقع الكلمة على بعضهم أشد إيلامًا من طعن السيف. أو بمعنى آخر يؤذي الآباء فلذات اكبادهم، إيذاءً عاطفيًا، وهم لا يشعرون أو وهم يحسبون أنهم يحسنون إليهم حتى يعلموهم الشدة وأن يكونوا على مستوى المسؤولية. وللاسف بدلاً من أن يصيروا “رجالاً” يكبرون وتكبر معهم عقد دفينة كان بالإمكان تجنبها لو راجعنا أنفسنا فيما نفعل حتى لا تصدق مقولة ابى العلاء المعرى “هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد”، ليست هناك “وصفة” جاهزة لضمان تربية الابناء أحسن تربية، لكن هناك أسسًا من المهم أن يعيها الأبوان. على الرغم من أن عملية “التربية “ تحتمل التجربة والخطأ وأحيانًا يتعلم الآباء من أبنائهم أنفسهم، إلا أن الخطر يظل قائمًا من اشكال العنف والايذاء العاطفي، الذي يتجاوز مجرد التطاول اللفظي ويهدد النمو العاطفي والاجتماعي للطفل. ولعل أهم صور الايذاء العاطفي للطفل التي تبقى في لاوعيه ويمتد تأثيرها إلى ما بعد مرحلة الطفولة، هي :
اللامبـالاة :
من المؤكد أن الأطفال يتعلمون كيف يتفاعلون مع العالم من خلال تفاعلاتهم المبكرة مع والديهم ، فإذا كان سلوك الوالدين مليئا بالدفء والحب، فهم بذلك يساعدون أطفالهم في أن يجدوا في العالم مكانًا آمنًا مليئًا بفرص التعلم والاستكشاف. أما إذا كان سلوكهم يتسم بالبرودة واللامبالاة، فإنهم سيحرمون أطفالهم من العناصر الضرورية لتحقيق نموهم العاطفي والاجتماعي، وإلغاء الدافع للاستكشاف والتعلم لديهم. وفي أحيان كثيرة تتراكم مشاعر اللامبالاة مع ضغوط الحياة وانشغال الابوين باستمرار، أو يدفع الصغار ثمن اللامبالاة التي يتبادلها الزوجان أحيانًا.
فمثلا عندما يرسم الطفل لوحة، أو يكتب قصة، أو قصيدة شعر، أو يتفوق في مجال رياضي معين، فإنه يشعر بالسعادة والفخر ويعرض ذلك على والديه بكل حماس، لكنه يقابل بعدم اهتمام، أو اتهامه بأنه يضيع وقته في أمور غير مفيدة. وإذا تكرر ذلك في مواقف مختلفة فإنه يترك بذاكرة الطفل شعور بعدم الاهتمام والاهمال.
وينبغي على الوالدين احتواء الطفل ومساعدته على تنمية مواهبه والتنسيق بين ذلك وبين دراسته كأن يحدد يومًا معينًا أو وقتًا معينًا ـ كالإجازات ـ لممارسة ذلك، إضافة إلى الاهتمام بالطفل في أموره الخاصة مثل الذهاب إلى مدرسته والاطمئنان على مستواه الدراسي، حضور حفلاته المدرسية، مشاركته في اختيار ملابسه، الاهتمام بأصدقائه،…
التقليل من شـأنه :
ويتمثل ذلك في اطلاق اسماء على الطفل مثل “غبي” ، أو سبه “إنت جيت غلطة” أو “يا تخين ” ، أو أي كلام آخر يؤثر سلبيًا في احساسه بذاته وثقته بنفسه، خاصة إذا أصبح بصورة مكررة ومعتادة. ومن الأفضل أن يمارس الوالدين النقد الفعال للطفل، مثلاً عندما يحصل الطفل على درجات غير متوقعة منه في الامتحان ، فيمكن أن يعاتب الطفل بأنه لم يستغل وقته بطريقة صحيحة أو أنه لم يعط الاهتمام أو الوقت الكافي الذي يحتاج إليه للدراسة ، وبهذا يمكننا مساعدة الطفل على الاستبصار بمشكلته ومساعدته على ايجاد حل لها دون أن ينظر إلى نفسه على أنه انسان فاشل .
ازدواجية التعامل :
حينما لا يستطيع الطفل توقع رد الفعل على تصرفاته ، سواء كانت هذه التصرفات صحيحة أو خاطئة ، فإن ذلك يعرضه للتفكير بطريقة غير منطقية، وعدم تطور مهاراته الاجتماعية، بالإضافة إلى الضغوط المعنوية ، وعدم قدرته على أن يبدأ تجربة جديدة. ويأتي ذلك من ازدواجية التعامل وتناقض الوالدين فى الاستجابة لسلوك معين من الطفل، مثلاً، إذا خرج الطفل من دون إذن، فإن والداه يعاقبانه بشدة، بينما قد يفعل ذلك مرة اخرى ويتغاضى الوالدان عن ذلك تمامًا دون اعطاء أي سبب يمكن للطفل فهمه واستيعابه. أو عندما يقوم الطفل بكسر شيء في البيت ، فتقوم الأم بتعنيفه وقد تستخدم العقاب الجسدي ، في حين إذا قام أحد اطفال الضيوف بكسر الشيء ذاته، تحاول الأم تهدئة الوضع واقناع الضيوف بأنه لم يحدث شيئًا وأن الطفل لا يستحق العقاب، وهكذا يشعر الطفل بالحيرة وعدم الثقة. من هنا علينا أن نحتوي الطفل وقت ارتكابه خطأ ما، وأن نقوم باحترام مشاعره خاصة اذا وقع الخطأ دون قصد منه . ومن ناحية اخرى علينا ان نعلمه كيف يتحمل نتيجة أخطائه ، فإن قام بكسر شيء قصدًا أو تنفيسًا عن غضبه ، فيمكنه أن يجمعه من على الأرض ، أو يحرم من شيء ما مثل فسحة جميلة أو هدية يتوقعها، وأن تكون الاستجابات مناسبة للفعل وغير متناقضة من وقت لآخر .
تهــديد الطفل وتخويفـه :
يشمل ذلك تهديد الطفل بالقعاب القاسي (ها قطع رقبتك، ها طردك من البيت، سأقتلك ، …. وهكذا ) مما يثير الفزع والخوف في نفس الطفل، وقد يصل الأمر إلى فعل ذلك أمام أصدقاء الطفل مما يترك أثارًا نفسية سيئة، ويمثل تهديدًا لاحساس الطفل بالأمان، وتعطيل قدرته على التعامل مع المواقف العصيبة أو الضغوط المختلفة. فالخوف المستمر وانتظار العقاب الأسوأ يجعل الطفل دائم التوتر، قليل التركيز، بالإضافة إلى ذلك، تشير الدراسات إلى أن الطفل الذي يتعرض للخوف الدائم قد تظهر عليه اعراض جسدية كالضعف المستمر وعدم القدرة على مقاومة الأمراض، وتكون لديه فرصة ضئيلة في النمو النفسي السليم والقدرة على ايجاد علاقات اجتماعية سوية .
التدليل الزائـد :
التدليل الزائد شكل آخر من اشكال الايذاء العاطفي للطفل لكنه ايذاء غير مباشر، فهو ليس عقابًا ولا تهديدًا بالعقاب، ووجه الشبه بينه وبين الاشكال السابقة يتمثل فى النتيجة وكونه يحرم الطفل من تحمل المسؤولية ، والقدرة على حل مشكلاته، بالإضافة إلى الاعتماد على الآخرين، وعدم الاستقلالية .
يتمثل التدليل الزائد في رد الفعل السلبي من قبل الوالدين إذا ارتكب الطفل خطأ فادحًا يؤثر سلبًا على شخصيته (خاصة عندما يتكرر هذا الخطأ ويصبح عادة ) مثل رغبة الطفل في أشياء الآخرين، أو إفساده للأشياء ، أو ضربه لأخيه ، فلا يحاولان تعديل سلوكه، وذلك اعتقادًا منهم أنه سوف يصلح حاله عندما يكبر ، ورغبة في عدم اغضابه. اضافة إلى ذلك عدم قدرة الوالدين على رفض أي طلب للطفل ، مما يجعله غير قادر على تأجيل اشباعاته ، وعدم ادراك الفرق بين ممتلكاته وممتلكات الآخرين. وقد أوضحت الدراسات أن الطفل الذي يعلم ان امه لا تتهاون معه عندما يكون الموضوع يتعلق بأمنه مثلاً يشعر بالامان اكثر من الطفل الذي تتسامح أمه معه وتتركه يقرر هو ما يشاء بمفرده دائمًا. ويجب على الوالدين تحقيق التوازن بين القسوة واللين، واشباع رغبات الطفل وفي الوقت نفسه، يتعلم الخضوع للقواعد والقيم.
القـسـوة:
أكثر أشكال الإيذاء بروزًا وهي العقاب القاسي سواء البدني، أو العاطفي، أو المعنوي لأخطاء قد لا تستحق العقاب أحيانًا، والاسوأ عندما يعاقب الطفل ولا يعلم ما هو خطأه ولا لماذا يعاقب، ويلجأ الوالدان لذلك لتوقعاتهم غير الواقعية من أبنائهم والتي لا تتناسب مع أعمارهم أو حتى نموهم العقلي والعاطفي والاجتماعي، أو عدم الوعي، أو الضغوط الاجتماعية ، ولا تبرر هذة الأسباب أوغيرها لجوء بعض الآباء للقسوة على أبنائهم والتي تتسبب في الكثير من المشكلات النفسية والاجتماعية وقد تجعلهم هم أنفسهم عرضة لأن يكونوا معتدين على غيرهم.
اذا كنا نلوم الابناء على عقوق الوالدين والاساءة إليهما عند الكبر فعلينا أن نفتش عن الاسباب الغائرة في الطفولة البعيدة .. عن أشكال الاساءة التي مارسها الآباء أنفسهم ضد أطفالهم بقصد أو دون قصد والتي قد تكون سببًا من الأسباب القوية التي أدت إلى الجحود والنكران، فما يزرعه الأبوان في صفحة الطفولة البريئة يحصدانه في الكبر . وقبل أن يفكر كل أب أو أم في أن يؤمنا مستقبل طفلهما أو يحلمان بتخرجه من احدى الكليات، عليهما أن يراجعا نفسهما كل يوم ويفتشا عن الوسائل التي تخلق من طفلهما شخصًا سويًا، فهذا أهم وأبقى.